قصة قصيرة اللؤلؤة
كتابة : سلام اليماني
من كتاب : اللــؤلــؤة
((حادثةٌ تخيّلَها الأديب
الأميركيّ جون شْتاينبِك، وافترضَ أنها تجري في أحد الشواطئِ الأميركية. وها أنا
أتخيّلُ مثلَها تحدثُ في الخليج العربيّ قبل اكتشافِ النفط وتطوّر الحياة))
××××
يعيشُ سعدٌ مع زوجتِهِ
في قريةٍ صغيرةٍ على شاطئِ الخليجِ العربيّ، يحترفُ سكّانُها الغوصُ لاستخراجِ
اللؤلؤ. إنهم قومٌ من فقراءِ العرب، أمّا قُراهم فهي أعشاشٌ من سعَفِ([1]) النخيل،
مكسوَّةً بطبقةٍ رقيقةٍ من الطين لسدِّ الفَجوات.
والغوّاصون رجالٌ
أقوياءُ الأجسام، يستأجرُهم تجّارُ اللؤلؤِ عندَ اشتدادِ حرِّ الصيفِ وهو موسمُ
اللؤلؤ، ويأخذونَهم في مراكبَ خاصّةٍ، ويبتعدونَ عن الشاطئِ مسافاتٍ طويلةً حيثُ
المَغاصاتُ([2]) الغنيّةُ بالْمَحارِ (أي الصَدَف).
يهبِطُ
الغوّاصونَ إلى أعماقِ الخليجِ فيجمعونَ المحارَ ويُخرجونَهُ إلى سطحِ المركَب،
حيث يقومُ عمّالٌ آخَرونَ بفتحِهِ تحتَ رِقابةِ التاجِرِ ربِّ العمل، ويستخرجونَ
ما في بعضِهِ من اللؤلؤ. وفي نهايةِ الموسمِ يوزِّعُ ربُّ العملِ على العامِلينَ
أجوراً متفاوِتةَ المقاديرِ من التمرِ والأرزِّ وطحينِ القمح، مؤونةَ غذاءٍ قد
تكفيهم طيلةَ العام.
مِن
هؤلاءِ الغوّاصينَ سعدُ بنُ حمدان. غوّاصٌ فقيرٌ يشتهرُ بقوّة الجسمِ وطولِ
البقاءِ تحتَ الماء، وبالمهارةِ في معرفةِ مَحارِ اللؤلؤ. لكنّ قدراتِهِ هذه لا
تجعلُ أجورَهُ أكثرَ من زملائهِ إلا قليلاً، الأمرُ الذي يزعجُهُ بالليلِ والنهار،
إذ يرى نفسَهُ يتسبّبُ للتجّارِ بالغنى ويبقى من الفقراء.
مرّةً
بعد انتهاء الموسمِ وانصرافِ المراكِب، قرّرَ سعدٌ أن يقومَ بمغامرةٍ في الخليجِ
ويجرّبَ حظّه. سبحَ مسافاتٍ طويلةً رغمَ وجودِ أسماكِ القرشِ المفترسة، ووصلَ إلى
إحدى المغاصات. وبينَ الأملِ في العثورِ على بعضِ اللؤلؤِ والخوفِ من القرشِ
المفترس، حصلَ أخيراً على مَحارةٍ شديدةِ الضخامة.
استلَّ
سِكّينَهُ وفتحَ المحارةَ تحتَ الماء، فوجدَ فيها أكبرَ لؤلؤةٍ رآها أو سمعَ عنها
في حياتِه، فأخرجَها من لَحمِ المحارةِ ووضعَها في جعبتِهِ وصعِدَ إلى سطحِ الماء،
واتجهَ سابحاً إلى الشاطئ.
بدأ
جسمُهُ يتشنّجُ وسطَ الماء، ولعلّ ذلك لاشتدادِ خوفِهِ على حياتِهِ من أسماكِ
القرشِ بعدَ أن صارت الثروةُ في جعبتِهِ. وفجأةً ساعدَهُ الحظُّ باقترابِ سِربٍ من
الدلافينِ أعداءِ سمكِ القرش، فانخرطَ بين الدلافينِ يسبحُ معها مقترباً من الرمل،
ثمّ غادرَها سابحاً بكلِّ عزمِهِ إلى الشاطئ.
جلسَ
على الشاطئِ يستردُّ أنفاسَه، ثم فتحَ الجعبةَ واطمأنَّ على اللؤلؤة، وأطبَقَ
عليها بجُمعِ يدِهِ وسارَ إلى كوخِهِ متظاهراً بعدمِ الاهتمام، كي لا ينتبِهَ
إليهِ أحدٌ فينكشفُ سرُّه.
في
الكوخ قالَ لزوجته: هذه اللؤلؤةُ ستجعلُنا أغنياءَ وتخلّصُني من العملِ بالأجرة،
فلا تخبري أحداً عنها على الإطلاق. أخاف أن يعلَمَ اللصوصُ فيسلبوني إيّاها، أو
يعلمَ التجّارُ أربابُ العمل، فيتهموني بسرقتِها خلالَ الموسم.
قالت
زوجتُه: بالعكسِ يا سعد. أخبِرْ جميعَ أهلِ القرية، إنهم قومُنا، وبهم تحمي نفسَكَ
من اللصوصِ ومن اتّهام التجّار.
قال
سعدٌ مصرّاً على رأيِه: كلاّ، كلاّ. السكوتُ أفضل. ومعَ الفجرِ أنطلقُ بها إلى
مدينةِ دُبَيّ، فأبيعُها وتنتهي الحكاية.
كان
في الكوخِ المجاورِ ثلاثةٌ من حُرّاسِ مركَبِ الغوص، وهم رجالٌ شَرِسونَ مسلّحونَ
بالسيوفِ والخناجر، يستأجرُهم التجّارُ طيلةَ الموسم، فيحرسونَ اللؤلؤ على
السفينةِ وفي الطريقِ إلى مدينة دبيّ، ثم ينتظرون حتى الموسمِ القادم.
من
خلالِ السَعَفِ والطينِ سمعَ الحرّاسُ حِوارَ سعدٍ وزوجتهِ، وقرّروا أن يسلُبوه
اللؤلؤة.
عندَ
الفجرِ انطلقَ سعدٌ إلى مدينةِ دُبَيّ مشياً مع الشاطئ، وانطلقَ الحراسُ الثلاثةُ
خلفَه بعدَ مدّة، ليمارسوا فعلَ اللصوصِ وقطّاعِ الطرق.
وعلى
الشاطئِ الرمليِّ الخالي من الناس، التفتَ سعدٌ إلى ورائهِ ليطمئنّ، فرأى الحرّاس
الثلاثةَ مسرعينَ إليهِ فأحسَّ بالشرِّ وبدأ يركض.
ركضَ
اللصوصُ خلفَ سعدٍ وكانت مطاردةً عنيفة.
توقّفَ
سعدٌ لحظةً يفكّرُ: أينَ الْمَفرّ؟ البحرُ عن يمينِهِ والصحراءُ أمامَه وعن
يسارِه، واللصوصُ خلفَه بسيوفٍ مرفوعةٍ لامعة. أيقنَ أنهُ إن أعطاهم اللؤلؤةَ فسوف
يقتلونَهُ لا محالَة فهو خصْمٌ وشاهِد. فألقى اللؤلؤةَ في البحرِ بكلِّ ما يستطيعُ
من قوّة.
في
نفسِ اللحظةِ وصلَ اللصوصُ إليهِ فقالَ: غوصوا واسترجِعوها.
قالَ
أشدُّهم شرّاً وعدوانيّة: بل تغوصُ أنت وتأتينا بها، أو نقتلُك.
قالَ
سعدٌ في نفسِهِ: هذا بالضبطِ ما أريدُه. وقذفَ نفسَه في البحرِ وسبح وسبح، ثم غاصَ
تحتَ الماءِ وابتعدَ قدْرَ استطاعتِه.. وما زالَ يسبحُ ويغوصُ حتى وصلَ إلى
قريتِه، ونادى على قومِه وحكى الحكاية.
أمّا
اللصوصُ فكانوا يتابعونَهُ على الشاطئ حتى صاروا على مَقرُبةٍ من القرية. وعندَما
شاهدوا اجتماعَ الغوّاصين، أدركوا أنهم قد انكشفوا فهربوا مسرعين.
وعانقَ
سعدٌ رجالَ قومِهِ فرِحاً بسلامته.
قصة
قصيرة الفَراشات
كتابة
: سلام اليماني
من كتاب : اللــؤلــؤة
من كتاب : اللــؤلــؤة
جاءت
القابلةُ([1]) العجوزُ تحملُ إلى الْمَلِكِ أوّلَ أولادِه، وهما توءمانِ متشابهانِ
وُلِدا تلكَ الساعةَ بفارِقِ لحَظاتٍ معدودة. كان التوءمانِ في ثيابٍ متماثلة،
والعجوزُ مرتبِكةً وخائفة، وأرادَت أن تغطّي مشكلتَها بالْمُزاح:
-احزِرْ
يا مولايَ أيَّهما وُلِد قبلَ الآخرَ..
كانت
العجوز قد شَهِدَتْ ولادتَهُ هو من بطنِ أمِّه، ويحترمُها كأنها جدّتهُ، فابتسمَ
لِمُزاحِها
ثم قال:
ثم قال:
-أراكِ
مرتبِكةً وتَمزحينَ فما المشكلة؟
-أعطِني
الأمانَ فأشرحُ المشكلة.
-هل
أنا جبّارٌ بطّاشٌ فتطلبي الأمان؟! أخبريني بالمشكلةِ كي أحلَّها.
-لا
أحدَ يحلُّها يا مولاي. لا أحدَ يعرِفُ أيُّ التوءمينِ ولِدَ قبلَ الآخَر، لا أنا
عرفتُ ولا أمّهُ ولا الخادمات.
-عجباً،
كيف يكونُ ذلك؟!
-المَخاضُ([2])
كانَ شاقّاً ومُربِكاً وفوجئنا بالطفلِ الثاني دونَ أن نتوقّعَه، ولو توقّعْناهُ
لأعدَدْنا ثياباً من لونٍ مختلفٍ تُميّزُه، وهكذا ألبسْناهُ ثوبَ أخيهِ كما ترى..
فكّرَ
الملكُ الحكيمُ لحظةً ثم قالَ يُطَمْئنُ القابلة:
-لا
ترتبكي ولا تقلقي، رُبَّ ضارَّةٍ نافعة.
-كيف
لا أقلقُ يا مولاي؟! أكبرُ الإخوةِ هو الذي يرثُ العرشَ- بعدَ عُمرٍ طويلٍ- ونحنُ
لا نعرفُه.
-لا
داعي لأن نعرِفَه. لا نحنُ ولا الحكماءُ الثلاثةُ الذين يساعدونني في إدارةِ
المملكة.
-ما
هدفُكَ من هذا كلِّه؟
-لقد
حاولتُ أن أكونَ عادلاً طولَ عمْري وأريدُ لخليفتي أن يكونَ أعدَل. وعندَما يكبرُ
التوءمان، سأختارُ الأفضلَ منهما لِيَخلُفَني في الْمُلك..
×××××××
بعدَ
ستِّ سنواتٍ توفّيَ الملكُ وفاةً مفاجِئة، فاجتمعَ الحكماءُ الثلاثةُ لاختيارِ
وريثِ العرشِ من الطفلين التوءمَين، على أن يبقى تحتَ وصايةِ الحكماءِ الثلاثةِ
وإشرافِهم حتى يكبرَ ويصبح قادراً على الحُكم.
قالَ
أحدُ الحكماء: أرى أن أحدَ التوءمينِ أطولُ قليلاً من الآخَر، وأقترحُ أن نُجريَ
القُرعةَ عليهما بهذا الدينارِ الذهبيّ؛ الصورةُ للأطولِ والنقشُ للأقصر.
قالَ
الحكيمُ الثاني: بل نسألُ أمَّهما أيُّهما تفضّل.
فقالَ
الحكيمُ الثالثُ: كلاّ. نحن وحدَنا نقرّرُ شؤونَ المملكة؛ وعندي فكرةٌ أفضلُ
لاختيارِ وليِّ العهد.
قالَ
الحكيمانِ الآخَران: إن أعجبَتنا فكرتُكَ وافقْناكَ عليها ونفّذناها في الحال.
تهامسَ
الحكماءُ الثلاثة، ثم أمروا فانطلقَ الطفلانِ يلعبانِ في حديقةِ القصرِ الملكيّ،
وأخذوا يراقبونَهما من النافذة.
كان
الطقسُ ربيعاً، والفَراشاتُ تتنقّلُ بينَ الشجَيراتِ والأزهار، وبدأ الطفلانِ
يطاردانِ الفراشات.
قالَ
الحكيمُ الثالث: الآنَ عرَفْتُ مَن أختارُ لولايةِ العهد، استدعوا الطفلين إلى هنا..
جاءت
المربِّياتُ بالطفلين، وسألَ الحكيمُ الثالثُ الطفلَ الأقصرَ: ماذا كنتَ تفعلُ
حينَ تتعبُ فراشةٌ وتحطُّ على شجرةٍ أو زهرة؟ قالَ الأمير: أتوقّفُ وأتفرّجُ
عليها؛ أفكّرُ في شكلِها وألوانِها.
ثم
سألَ الطفلَ الأطوَل السؤالَ نفسَهُ فأجاب: أُمسِكُها وأضغطُ عليها، كي أعرفَ هل
هي هشّةٌ أم قاسية.
همسَ
الحكيم ُ الثالث لزميلَيه: إن كانَ يفعلُ هذا بالفراشاتِ الآن، فماذا سيفعلُ
بالناسِ في المستقبل؟
وعلى
الفَورِ أعلنَ الحكماءُ الأميرَ الرحيمَ وريثاً للعرش.
([1]) المرأةُ
التي تولّدُ النساء. في العاميّةِ يسمّونها الداية.
([2]) آلامُ
ما قبلَ الولادة.
قصة
قصيرة شاعر الشعب
كتابة
: سلام اليماني
من كتاب : اللــؤلــؤة
من كتاب : اللــؤلــؤة
كان
الملكُ غاضباً ثائراً حاقداً مقهوراً بكلِّ معنى الكلمة. صبَّ غضبَه عنيفاً على
قائدِ الجيشِ واصِفاً إيّاهُ بالجبن والتخاذل، وقرّعَهُ باللومِ تقريعاً شديداً،
وأطلقَ في وجهِهِ حُمَماً ناريّةً من التهديدِ والوعيد، وكانَ مما قالَهُ في تلك
الساعة:
-للمرةِ
الثالثةِ ينهزمُ جيشُنا أمامَ الأعداءِ وأنتَ المسؤولُ، فماذا ينقصُ جيشَنا
ويمنعُهُ من النصر؟ عدَدُهُ كبير، وسلاحُهُ جيّدٌ، وتدريباتُهُ عنيفةٌ متواصلة،
فماذا يحتاجُ بعدَ هذا لينتصر؟
ظلّ
قائدُ الجيشِ صامتاً لا يدري ما يقول. أمّا الوزيرُ الذكيُّ فبادرَ يقول: مولايَ
الملكَ المعظّم، جنودُنا يفتقرونَ إلى الحماسةِ الوطنيّة. والحماسةُ يا مولايَ
ليست طعاماً نطعمُهم إيّاهُ ولا سلاحاً نزوّدُهم به. الحماسةُ شعورٌ في النفْس،
والشعورُ يُضرِمُهُ الشِّعرُ كما تُضرِمُ النارُ الحطب.
قال
الملكُ متحمّساً للفكرة: أحضروا شاعرَ الشعبِ الآنَ في الحال.
بعدَ
ساعةٍ واحدةٍ كان الشاعرُ في حضرةِ الملك، فأمرَهُ بحزمٍ ووضوح: اذهبْ إلى جنودِنا
الآنَ في مواقعِهم على الجبهة، وأنشدْهم شعراً يُضرِمُ فيهم حبَّ الوطنِ والحماسة
لانتصاره.
قال
الشاعرُ بثقةٍ واحترام: أمرُ مولاي. فقال الملك: اسمعْ أيها الشاعر: إذا انهزمَ
جيشُنا فسوف أقطعُ رأسَك، أمّا إذا انتصرْنا فلَكَ منّي جائزةٌ ضخمةٌ من الذهب.
قال
الشاعر: لن أفكّرَ الآنَ في الجائزة، وسأُلْهِبُ قلوبَ جنودِنا بحبِّ الوطن.
وانطلقَ
الشاعرُ إلى تجمّعاتِ الجنودِ على جبهةِ المواجهةِ مع العدوْ، وبدأ يُنشدَهم قصائدَ
رائعةً تعصِفُ بقلوبِهم عصفاً، وتُضرِمُ مشاعِرَهم إضراماً، فكانوا يستعيدونَها
ويستزيدونَ منها مرّةً بعدَ مرّة.
لكنّ
مُخبِراً من رجالِ الأمنِ السرّيينِ أسرعَ يهمِسُ للملكِ والوزير: هذا الشاعرُ
خائنٌ وعميلٌ للأعداء. إنه لا يعلّمُ جنودَنا أناشيدَ تدعو إلى سحقِ الأعداءِ
وتمزيقِهم وشُربِ دمائهم بدلَ الماء، بل يُلهيهم بقصائدَ سخيفةٍ تافهةٍ تتغنّى
بجمالِ النساء، كي يُفسِدَ عندَهم إرادةَ القتالِ ويتسبّبَ في الهزيمة.
اشتعلَ
الملكُ غضباً وأمرَ باعتقالِ الشاعر، كي يُحاكمَ صباحَ اليومِ التالي أمامَ الشعبِ
ويُقطَعُ رأسُهُ بِجُرمِ الخيانة.
بعدَ
ساعاتٍ قليلةٍ وتحت جُنحِ الليل، صارَ الشاعرُ سجيناً مكبّلاً بالأغلال، متّهماً
بأنه خائنٌ ومحرِّضٌ على التخاذُلِ([1]). لكنه كان واثقاً من نفسِهِ ومن أشعارِه،
فنامَ ليلتَهُ بينَ اليأسِ والأمل.
في
صباحِ اليومِ التالي، تجمَّعَ الناسُ في ساحةِ العاصمةِ، ليشهَدوا محاكمةَ شاعرِهم
وقطعَ رأسِه. وعندَ الضُّحى جاءَ حرّاسُ السجنِ يقتادونهُ مُكبَّلاً بالأغلال،
وحضرَ الملكُ في موكِبٍ عسكريٍّ مَهيب([2])، يتقدّمُهُ الطبّالونَ والزمّارونَ
ويحيطُ به الوزيرُ وقائدُ الجيشِ والحاشيةُ([3]) والحرسُ المسلّحون. وأمامَ
الموكبِ كلِّهِ يسيرُ السيّافُ شاهراً سيفَهُ الضخمَ الرهيب.
توقفَ
الموكبُ في جانبٍ من الساحةِ وهتفَ الوزير: باسمِ الوطنِ والعدالة، نعاقبُ هذا
الشاعرَ بجريمةِ الخيانة، لأنهُ لم يحرّضْ جنودَنا على الحماسةِ الوطنيّة.
كانت
صدمةً هائلةً للناس، فقد اعتادوا على حبِّهم للشاعرِ وحبِّهِ لوطنِه، فبدؤوا
يهتِفونَ بأصواتٍ قويّةٍ مختلِطة: أخبِرونا ماذا فعل؟ ماذا فعل؟ فرفعَ الوزيرُ
يدَهُ وصاحَ رئيسُ الحرسِ: اسكتوا، فسكتَ الناسُ مترقِّبين.
قال
الملكُ للشاعر: ماذا أنشدْتَ الجنودَ أيها الشاعر؟
قال
الشاعر: أنشدتُهم عن جمالِ الأرضِ والينابيعِ والشجرِ، عن أزهارِ الربيعِ
وفراشاتِه اللطيفة، عن ابتسامات الأطفالِ ولذّةِ الخبزِ الساخن، عن حنانِ
الأمّهاتِ وكَدْحِ الآباءِ وحِكمةِ الأجداد. أليس هذا هو الوطنُ يا مولايَ بل
أروعُ ما في الوطن؟
ارتبَكَ
الملِكُ واحتارَ فيما يقول. لكنّ الوزيرَ الذي لا يكذّبُ رجالَ أمنِهِ السِريّينَ
هتفَ بالشاعر:
-والنساءُ
الجميلاتُ أيّها الشاعر، ألَمْ تتغزَّلْ بجمالِ النساء؟
-وهل
تريدُ أن أتغنّى بجمالِ الشجرِ وأنسى جمالَ البشر؟ أليسَ جمالُ النساءِ بعضَ جمالِ
الوطن؟
وأدركَ
الناسُ حاجتَهُ للمساعدة فصاروا يهتفون:
-أشعارُهُ
وطنيّة. أشعارُهُ ليست خيانة.
هذه
المرّةَ احتارَ الملكُ والوزيرُ كلاهُما، ونظرَ كلّ منهما إلى الآخَر كأنه
يسألُهُ: ما العمل؟ وأخيراً هتف الملك:
-اسمعْ
أيها الشاعر: لقد وعدتُكَ بالثّوابِ إذا انتصرْنا، وبالعِقابِ إذا انهزمْنا، وإلى
أن تقع المعركةُ ونعرفَ نتيجتَها ستبقى في السجن.
ثم
أمرَ رجالَ الحرس:
-خذوه.
وأسرعَ
الوزيرُ يخاطبُ الشعب:
-وأنتم
تفرَّقوا، كلٌّ إلى عملِه.
×××××
بعدَ
أيّامٍ قليلةٍ هجمَ جنودُ الملكِ على الأعداء، ولم تمضِ بضعُ ساعاتٍ حتى كانت
جيوشُ الأعداءِ تنهزمُ مسحوقةً مشتّتة، وكانَ جنودُ الملكِ يرفعونَ راياتِ النصرِ
ويهتِفونَ هُتافاتِ الفرحِ العظيم. ثم استسلمَ قادةُ الأعداء، ووقّعوا ميثاقَ صلحِ
دائمٍ وعدَمِ اعتداء.
وفي
غَمْرة احتفالِ القصرِ المَلكيِّ بالنصرِ أمرَ الملكُ فأحضروا الشاعرَ من السجنِ
حُرّاً من الأغلال، وخلالَ الطبولِ والزمورِ تقدَّمَ الملكُ وسْطَ حاشيتِهِ وألقى
للشاعرِ بكيسٍ مخمَليٍّ فيه خمسُمئةِ دينارٍ من الذهب.
أخذَ
الشاعرُ الكيسَ وانحنى للملكِ قائلاً: أمرُ مولاي. فانبرى الوزيرُ يوبِّخُه:
-هكذا
أيّها الشاعرُ تقولُ كلمةً واحدة؟!
قال
الشاعر:
-خيرُ
الكلامِ ما قلَّ ودلَّ.
فهتفَ
بهِ الوزيرُ بلهجةٍ آمرة:
-بلْ
يجبُ أن تنشئَ قصيدةً طويلةً وتشكرَ مولانا على عدالتِه.
قالَ
الشاعرُ هادئاً وواثقاً بنفسِه:
-لو
انهزمَ جيشُنا لقطعتم رأسي فأينَ العدالة؟ وهل أنا مُجبَرٌ على ضَمانِ انتصارِ
الجيش؟
ذُهِلَ
الجميعُ من هَولِ المفاجأةِ وتابعَ الشاعر:
– وهل
يُضمَنُ النصرُ بمئة قصيدةٍ أو ألفِ قصيدة؟
قال
الملكُ وهو يرتعِشُ من الغضب:
-لو
أنّ من أخلاقِ الملوكِ أن يتراجعوا عن عطاياتهم لسحبْتُ منكَ المكافأة، فخذْها
وانصرِفْ دونَ كلام.
قال
الشاعر: أمرُ مولاي. وسوف أوزّعُ الذهبَ على الناسِ باسمِك، كي يُفرِحوا الأطفال.
([1]) التخاذل:
الحضّ على الجبنِ وتركِ القتال.
([2]) ذو
هَيبة.
قصة قصيرة وطنُ الفقراء
كتابة : سلام اليماني
من كتاب : اللــؤلــؤة
من كتاب : اللــؤلــؤة
كانَ في قديمِ الزمانِ طفلٌ في السابعةِ
من العُمْرِ يتيمُ الأبوينِ اسمُهُ (أسعد)، يعيشُ معَ جدِّهِ في قريةٍ كبيرةٍ
خصبة، أقطعَها([1]) الملكُ لخازِنِ أموالِه.
جاءَ مرّةً إلى جدِّهِ يقول: اليومَ
تشاجرتُ مع ابنِ الخازنِ في ساحةِ القرية.
قالَ جدُّه: لا يا أسعدُ، لا تتشاجرْ مع
أحد.
قالَ أسعد: ابنُ الخازنِ قالَ لي ولكلّ
أولادِ الفلاحين: هذه القريةُ وطنهُ هو لأنّ أباهُ يملِكُها، وليست وطنَنا.
قال الجدُّ بألمٍ عميق: هذا صحيح. أمّا
نحنُ الفقراءَ فلنا وطنٌ آخَر.
سألَ أسعد: أينَ يا جَدّي، أينَ وطنُنا؟
قال جدّه: ستعرفُهُ في الوقتِ المناسب.
بعدَ مدّةٍ حصدَ الفلاحونَ القمحَ وجمعوا
المحصولَ على البيادر، فقالَ أسعدُ لجدِّه:
-هذا البيدرُ كلّه لنا، ما أكبرَه وما
أجملَه!!
أجابَهُ الجدّ:
-هذا وطنُنا، صنعناهُ بكدِّنا وعرقِنا
بالليلِ والنهار.
قالَ أسعدُ مستغرباً:
-هذا محصولٌ وليس وطناً.
فأجابَ جدُّه:
-هذا وطنُنا لأنّ فيهِ كلَّ أسبابِ
حياتِنا: إن أكلْنا بعضَهُ وبِعْنا بعضَه، نحصلْ على الغذاءِ والكساءِ والدواءِ
والسعادة.
وصمتَ لحظةً ليتأكّدَ مِن أن حفيدَهُ
يفهمُ ما يقولُ، ثم تابَع:
-وإن خبّأْنا من هذا البيدرِ ما يزيدُ عن
حاجاتِنا، نضمَنْ،ْ حياتَنا في سنواتِ الجفافِ وأمراضِ النباتِ وفسادِ المواسم.
قال أسعدُ بحماسة: هيّا ننقله ونخزِنُه.
فأجابَ الجدُّ بابتسامةٍ لم يفهمْ أسعدُ
مغزاها: اصبِرْ يومينِ أو ثلاثةً وبعدَها ننقلُ ما تشاء.
بعدَ أيامٍ ثلاثة، جاءَ الخازنُ يرافقُهُ
جنودٌ مسلَّحون. وقفوا عندَ بيدرِ الجدِّ وأسعد. أخذوا ثلُثَ المحصولِ حِصّةً
للملك، ثم أخذوا الثُلثَ الثاني حِصّةً للخازن، ثم أخذوا ثُلُثَ الثُلُثِ الباقي
ضريبةً عن بيتِ أسعد، الذي صنعَ الآباءُ والأجدادُ لبِنَهُ من طين القريةِ وبنوهُ
بالسواعدِ الكادحة.
أشارَ الجدُّ إلى بيدرِهِ الذهبيِّ
المسلوبِ وقالَ لحفيدهِ: هل عرفتَ الآنَ أين وطنُك؟
([1]) الإقطاع: هو أن يُملّكَ الحاكم أو الملكُ
قطعة أرضٍ أو قرية أو عدّة قرى لشخصٍ معيّن، مِلكاً شخصيّاً لـه ولأولادِهِ من
بعدِه، ويكونُ الإقطاعي عادة من أقرباء الحاكم أو الملك، أو من أتباعِهِ وأصدقائه.
.
لا تشاهد و ترحل ، خلي تعليقك على القصص و النوع الذي تحبه من القصص.
سوف يتم الرد عليك خلال 24 ساعة.